فصل: تفسير الآية رقم (24)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

إضراب انتقالي عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏ وهو الكلام المضرَب عنه والمنتقل منه، والمراد الانتقال إلى توبيخ آخر، فالهمزة المقدرة بعد ‏{‏أم‏}‏ للاستفهام التوبيخي، فإنهم قالوا ذلك فاستحقوا التوبيخ عليه‏.‏ والمعنى‏:‏ أم قالوا افترى ويقولونه‏.‏

وجيء بفعل ‏{‏يقولون‏}‏ بصيغة المضارع ليتوجه التوبيخ لاستمرارهم على هذا القول الشنيع مع ظهور دلائل بطلانه‏.‏ فإذا كان قولهم هذا شنعاً من القول فاستمرارهم عليه أشنع‏.‏

وفُرع على توبيخهم على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فإن يشأ الله يختم على قلبك‏}‏ وهو تفريع فيه خفاء ودقّة لأن المتبادر من التفريع أنّ ما بعد الفاء إبطال لما نسبوه إليه من الافتراء على الله وتوكيد للتوبيخ فكيف يستفاد هذا الإبطال من الشرط وجوابِه المفرعين على التوبيخ‏.‏

وللمفسرين في بيان هذا التفريع وترتبه على ما قبله أفهام عديدة لا يخلو معظمها عن تكلف وضعف اقتناع‏.‏ والوجه في بيانه‏:‏ أن هذا الشرط وجوابَه المفرَّعين في ظاهر اللفظ على التوبيخ والإبطال هما دليل على المقصود بالتفريع المناسب لتوبيخهم وإبطاللِ قولهم، وتقديرُ المفرع هكذا‏:‏ فكيف يَكون الافتراء منك على الله والله لا يُقِر أحداً أن يكذب عليه فلو شاء لختم على قلبك، أي سلبك العقل الذي يفكر في الكذب فتفحم عن الكلام فلا تستطيع أن تتقول عليه، أي وليس ثمة حائل يحول دون مشيئة الله ذلك لو افتريت عليه، فيكون الشرط كناية عن انتفاء الافتراء لأن الله لا يقرّ من يكذب عليه كلاماً، فحصل بهذا النظم إيجاز بديع، وتكون الآية قريباً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لَقَطَعْنَا منه الوتِين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 44 46‏]‏‏.‏

ولابن عطية كلمات قليلة يؤيد مغزاها هذا التقرير مستندة لقول قتادة محمولاً على ظاهر اللفظ من كون ما بعد الفاء هو المفرع، ويكون الكلام كناية عن الإعراض عن قولهم‏:‏ ‏{‏افترى على الله كذباً‏}‏، أي أن الله يخاطب رسوله بهذا تعريضاً بالمشركين‏.‏ والمعنى‏:‏ أن افتراءه على الله لا يهمكم حتى تناصبوا محمداً صلى الله عليه وسلم العداء، فالله أولى منكم بأن يغار على انتهاك حرمة رسالته وبأن يذب عن جلاله فلا تجعلوا هذه الدعوى همكم فإن الله لو شاء لختم على قلبك فسلبك القدرة على أن تنسب إليه كلاماً‏.‏ وهذان الوجهان هما المناسبان لموقع الآية، ولفاء التفريع، ولما في الشرط من الاستقبال، ولوقوع فعل الشرط مضارعاً، فالوقف على قوله‏:‏ ‏{‏على قلبك‏}‏ وهو انتهاء كلام‏.‏

وجملة ‏{‏ويمح الله الباطل‏}‏ معطوفة على التفريع، وهي كلام مستأنف، مراد منه أن الله يمحو باطل المشركين وبهتانهم ويحقق ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم

وعلى مراعاة هذا المعنى جرى جمع من أهل التفسير مثل الكسائي وابن الأنباري والزجاج والزمخشري ولم يجعلوا ‏{‏ويمح‏}‏ عطفاً على فعل الجزاء لأن المتبادر أن هذا وعد من الله بإظهار الإسلام، ووعيد المشركين بأن دينهم زائل‏.‏

وهذا هو المتبادر من رفع ‏{‏ويحقُّ‏}‏ باتفاق القراء على رفعه، والمراد بالمحو على هذا‏:‏ الإزالةُ‏.‏ والمراد بالباطلِ‏:‏ الباطل المعهود وهو دين الشرك‏.‏ وبالحق‏:‏ الحق المعهود، وهو الإسلام‏.‏

أو يكون المعنى أن من شأن الله تعالى أن يزيل الباطل ويفضحه بإيجاد أسباب زواله وأن يوضح الحقّ بإيجاد أسباب ظهوره، حتى يكون ظهوره فاضحاً لبطلان الباطل فلو كان القرآن مفترى على الله لفضح الله بطلانه وأظهر الحق، فالمراد بالباطل‏:‏ جنس الباطل، وبالحق جنس الحق، وتكون الجملة كالتذييل للتفريع‏.‏ والمعنى الأول أنسب بالاستئناف، ولإفادته الوعيد بإزالة ما هم عليه ونصر المسلمين عليهم‏.‏

وعلى كلا المعنيين فقوله‏:‏ ‏{‏ويمح الله الباطل‏}‏ كلامٌ مستأنف ليس معطوفاً على جزاء الشرط إذ ليس المعنى على‏:‏ إنْ يشأ الله يمحُ الباطل، بل هو تحقيق لمحوه للباطل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الباطل كان زهوقاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏، كما دل عليه رفع ‏{‏ويحقُّ الحق بكلماته‏}‏، ففعل ‏{‏يمحُ‏}‏ مرفوع وحقه ظهور الواو في آخره، ولكنها حذفت تخفيفاً في النطق، وتبع حذفَها في النطق حذفُها في الرسم اعتباراً بحال النطق كما حذف واو ‏{‏سندعُ الزبانية‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 18‏]‏ وواو ‏{‏ويدْع الإنسان بالشر دعاءه بالخير‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وذكر في «الكشاف» أن الواو ثبتت في بعض المصاحف ولم يعيّنه ولا ذكره غيره فيما رأيت‏.‏

وإظهار اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏ويمح الله الباطل‏}‏ دون أن يقول‏:‏ ويمحُ الباطل، لتقوية تمكن المسند إليه من الذهن ولإظهار عناية الله بمحو الباطل‏.‏ وإنما عُدل على الجملة الاسمية في صوغ ‏{‏ويمح الله الباطل‏}‏ فلم يقل‏:‏ والله يمحو الباطل، لأنه أريد أن ما في إفادة المضارع من التجدد والتكرير إيماء إلى أن هذا شأن الله وعادته لا تتخلف ولم يقصد تحقيق ذلك وتثبيته لأن إفادة التكرير تقتضي ذلك بطريق الكناية فحصل الغرضان‏.‏

والباء في ‏{‏بكلماته‏}‏ للسببية، والكلمات هي‏:‏ كلمات القرآن والوحي كقوله ‏{‏يريدون أن يبدّلوا كلام الله‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 15‏]‏، أو المراد‏:‏ كلمات التكوين المتعلقة بالإيجاد على وفق علمه كقوله‏:‏ ‏{‏لا مبدل لكلماته‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وإنما جاء هذا الرد عليهم بأسلوب الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن ذلك أقوى في الاعتناء بتلقينه جواب تكذيبهم لأن المقام مقام تفظيع لبهتانهم، وهذا وجه التخالف بين أسلوب هذه الآية وأسلوب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لو شاء الله ما تلوتهُ عليكم ولا أدْرَاكُم به‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 16‏]‏ لأن ذلك لم يكن مسوقاً لإبطال كلام صدر منهم‏.‏

وجملة ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏ تعليل لمجموع جملتي ‏{‏فإن يشإ الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بكلماته‏}‏، أي لأنه لا يخفى عليه افتراء مُفترٍ ولا صدقُ محقَ‏.‏ و‏(‏ذات الصدور‏)‏‏:‏ النوايا والمقاصد التي يضمرها الناس في عقولهم‏.‏ والصدور‏:‏ العقول، أطلق عليها الصدور على الاستعمال العربي، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏43‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏25‏)‏ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

لما جرى وعيد الذين يحاجُّون في الله لتأييد باطلهم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يحاجّون في الله من بعدما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 16‏]‏‏.‏ ثم أتبع بوصف سوء حالهم يوم الجزاء بقوله‏:‏ ‏{‏ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 22‏]‏، وقوبل بوصف نعيم الذين آمنوا بقوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 22‏]‏، وكان ذلك مَظنة أن يكسر نفوس أهل العناد والضلالة، أعقب بإعلامهم أن الله من شأنه قبول توبة من يتوب من عباده، وعفوُه بذلك عما سلف من سيئاتهم‏.‏

وهذا الإخبار تعريض بالتحريض على مبادرة التوبة ولذلك جيء فيه بالفعل المضارع الصالح للاستقبال‏.‏ وهو أيضا بشارة للمؤمنين بأنه قبل توبتهم مما كانوا فيه من الشرك والجاهلية فإن الذي من شأنه أن يقبل التوبة في المستقبل يكون قد قبل توبة التائبين من قبلُ، بدلالة لحن الخطاب أو فَحواه، وأن من شأنه الاستجابة للذين آمنوا وعملوا الصالحات من عباده‏.‏ وكل ذلك جرْي على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب وعكسه‏.‏ وهذا كله يتضمن وعداً للمؤمنين بقبول إيمانهم وللعصاة بقبول توبتهم‏.‏

فجملة‏:‏ ‏{‏وهو الذي يقبل التوبة عن عباده‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏وإن الظالمين لهم عذاب أليم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏ وما اتصل بها ممّا تقدم ذكره وخاصة جملة‏:‏ ‏{‏ويمح الله الباطل‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وابتِناءُ الإخبار بهذه الجملة على أسلوب الجملة الاسمية لإفادتها ثباتَ حكمها ودوامه‏.‏ ومَجيءُ المسند اسم موصول لإفادة اتصاف الله تعالى بمضمون صلته وأنها شأن من شؤون الله تعالى عرف به ثابت له لا يتخلف لأنه المناسب لحكمته وعظَمة شأنه وغناه عن خلقه‏.‏ وإيثار جملة الصلة بصيغة المضارع لإفادة تجدد مضمونه وتكرره ليعلموا أن ذلك وعد لا يتخلف ولا يختلف‏.‏

وفعل ‏(‏قَبِلَ‏)‏ يتعدى ب ‏(‏من‏)‏ الابتدائية تارة كما في قوله‏:‏ ‏{‏وما مَنَعَهم أن تقبل منهم نفقاتهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 54‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏، فيفيد معنى الأخذ للشيء المقبول صادراً من المأخوذ منه، ويعدَّى ب ‏{‏عن‏}‏ فيفيد معنى مجاوزة الشيء المقبول أو انفصالِه عن معطيه وباذِلِه، وهو أشد مبالغةً في معنى الفعل من تعديته بحرف ‏(‏من‏)‏ لأن فيه كناية عن احتباس الشيء المبذول عند المبذول إليه بحيث لا يُردّ على باذلِه‏.‏

فحصلت في جملة ‏{‏وهو الذي يقبل التوبة عن عباده‏}‏ أربعُ مبالغات‏:‏ بناء الجملة على الاسمية وعلى الموصولية وعلى المضارعية، وعلى تعدية فعل الصلة ب ‏{‏عن‏}‏ دون ‏(‏من‏)‏‏.‏

و ‏{‏التوبة‏}‏‏:‏ الإقلاع عن فعل المعصية امتثالاً لطاعة الله، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتلقّى آدم من ربه كلمات فتاب عليه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏37‏)‏‏.‏ وقبول التوبة منّة من الله تعالى لأنه لو شاء لَمَا رضِي عن الذي اقترف الجريمة ولكنه جعلها مقبولة لحكمته وفضله‏.‏

وفي ذكر اسم العباد دون نحو‏:‏ الناس أو التائبين أو غير ذلك إيماء إلى أن الله رفيق بعباده لمقام العبودية فإن الخالق والصانع يحب صلاح مصنوعه‏.‏

والعفو‏:‏ عدم مؤاخذة الجاني بجنايَته‏.‏ والسيئات‏:‏ الجرائم لأنها سيئة عند الشرع‏.‏ والعفو عن السيئات يكون بسبب التوبة بأن يعفو عن السيئات التي اقترفها العاصي قبل توبته، ويكون بدون ذلك مثل العفو عن السيئات عقب الحج المبرور، ومثل العفو عن السيئات لأجل الشهادة في سبيل الله، ومثل العفو عن السيئات لكثرة الحسنات بأن يُمحَى عن العاصي من سيئاته ما يقابل مقداراً من حسناته على وجه يعلمه الله تعالى، ومثل العفو عن الصغائر باجتناب الكبائر‏.‏

والتعريف في السيئات‏}‏ تعريف الجنس المراد به الاستغراق وهو عام مخصوص بغير الشرك قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يُشْرَك به‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ ولك أن تجعله عوضاً عن المضاف إليه، أي عن سيئات عباده فيعم جميع العباد عموماً مخصوصاً بالأدلة لهذا الحكم كما في الوجه الأول‏.‏

وجملة ‏{‏ويعلم ما تفعلون‏}‏ معترضة بين المتعاطفات أو في موضع الحال، والمقصود‏:‏ أنه لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده خيرها وشرها‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ما يفعلون‏}‏ بياء الغيبة، أي ما يفعل عبادُه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتاء الخطاب على طريقة الالتفات‏.‏

والاستجابة‏:‏ مبالغة في الإجابة، وخُصت الاستجابة في الاستعمال بامتثال الدعوةِ أو الأمر‏.‏ وظاهر النظم أن فاعل ‏{‏يستجيب‏}‏ ضمير يعود إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏وهو الذي يقبل التوبة‏}‏ وأن ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ مفعول ‏{‏يستجيب‏}‏ وأن الجملة معطوفة على جملة ‏{‏يقبل التوبة‏}‏‏.‏

والغالب في الاستعمال أن يقال‏:‏ استجاب له، كقوله‏:‏ ‏{‏ادعوني أستجب لكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ وقد يحذفون اللام فيعدُّونه بنفسه، كقول كعب بن سعد‏:‏

ودَاععٍ دَعا يَا من يجيب إلى الندا *** فلم يستجبه عند ذَاك مجيب

والمعنى‏:‏ أن الله يستجيب لهم ما يرجونه منه من ثواب، وما يدْعُونه‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ فعل ‏{‏يستجيب‏}‏ أي يستجيبون لله فيطيعونه وتكون جملة ‏{‏ويستجيب‏}‏ عطفاً على مجموع جملة ‏{‏وهو الذي يقبل التوبة‏}‏، أي ذلك شأنه وهذا شأن عباده المؤمنين‏.‏

ومعنى ‏{‏ويزيدهم من فضله‏}‏ على الوجهين أنه يعطيهم ما أمَّلوا من دعائهم وعملهم وأعظم مما أملوا حين استجابوا له ولرسوله، وأنه يعطيهم من الثواب أكثر مما عملوا من الصالحات إذ جعل لهم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف كما في الحديث، وأنه يعطيهم من خير الدنيا ما لم يسألوه إياه كل ذلك لأنه لطيف بهم ومدبر لمصالحهم‏.‏

ولما كانت الاستجابة والزيادة كرامةً للمؤمنين، أظهر اسم ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ وجيء به مَوْصُولاً للدلالة على أن الإيمان هو وجه الاستجابة لهم والزيادة لهم‏.‏

وجملة ‏{‏والكافرون لهم عذاب شديد‏}‏ اعتراض عائد إلى ما سبق من قوله‏:‏ ‏{‏ترى الظالمين مُشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 22‏]‏ توكيداً للوعيد وتحذيراً من الدوام على الكفر بعد فتح باب التوبة لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ويزيدهم من فضله‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 26‏]‏ أو على المجموع من جملة ‏{‏ويستجيب الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 26‏]‏ ومن جملة ويزيدهم من فضله‏.‏

وموقع معناها موقع الاستدراك والاحتراس فإنها تشير إلى جواب عن سؤال مقدر في نفس السامع إذا سمع أن الله يستجيب للذين آمنوا وأنه يزيدهم من فضله أن يتساءل في نفسه‏:‏ أن مما يَسأل المؤمنون سعة الرّزق والبسطةَ فيه فقد كان المؤمنون أيام صدر الإسلام في حاجة وضيق رزق إذ منعهم المشركون أرزاقهم وقاطعوا معاملتهم، فيجاب بأن الله لو بسط الرّزق للنّاس كلهم لكان بسطه مفسداً لهم لأن الذي يستغني يتطرقه نسيان الالتجاء إلى الله، ويحمله على الاعتداء على الناس فكان من خير المؤمنينَ الآجِللِ لهم أن لا يبسط لهم في الرّزق، وكان ذلك منوطاً بحكمة أرادها الله من تدبير هذا العالم تَطّرد في الناس مؤمِنهم وكافرِهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الإنسان ليَطْغَى أنْ رءاه اسْتَغْنَى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏ وقد كان في ذلك للمؤمن فائدة أخرى، وهي أن لا يشغله غناه عن العمل الذي به يفوز في الآخرة فلا تشغله أموالُه عنه، وهذا الاعتبار هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال للأنصار لما تعرّضوا له بعد صلاة الصبح وقد جاءه مال من البَحرين ‏"‏ فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم ولكنْ أخشى عليكم أن تُبْسَط عليكم الدنيا كما بُسطت على من قبلكم فتنَافَسُوها كما تنافَسُوها وتُهْلِككم كما أهلكتهم ‏"‏‏.‏

وقد وردت هذه الآية مورداً كلياً لأن قوله ‏{‏لعباده‏}‏ يعُم جميع العباد‏.‏ ومن هذه الكلية تحصل فائدة المسؤول عليه الجزئي الخاص بالمؤمنين مع إفادة الحكمة العامة من هذا النظام التكويني، فكانت هذه الجملة بهذا الاعتبار بمنزلة التذييل لما فيها من العموم، أي أن الله أسس نظام هذا العالم على قوانينَ عامةٍ وليس من حكمته أن يخص أولياءه وحزبه بنظام تكويني دنيوي ولكنه خصهم بمعاني القرب والرضى والفوز في الحياة الأبدية‏.‏ وربما خصّهم بمَا أراد تخصيصهم به مما يرجع إلى إقامة الحق‏.‏

والبغي‏:‏ العدوان والظلم، أي لبغى بعضهم على بعض لأن الغنى مظنة البطَر والأشر إذا صادف نفساً خبيثة، قال بعض بني جَرم من طيء من شعراء الحماسة‏:‏

إذا أخصبتمو كنتمْ عَدُوًّا *** وإن أجْدَبتُمُو كنتمْ عيالاً

ولبعض العرب أنشده في «الكشاف»‏:‏

وقد جعل الوسْمِيُّ يُنبِتُ بينَنا *** وبينَ بني رُومَان نَبعاً وشَوْحَطا

فأما الفَقر فقلما كان سبباً للبغي إلا بغياً مشوباً بمخافة كبغي الجائع بالافتكاك بالعنف فذلك لندرته لا يلتفت إليه، على أن السياق لبيان حكمة كون الرزق بقدَر لا لبيان حكمةٍ في الفقر‏.‏

فالتلازم بين الشرط وجوابه في قوله‏:‏ ‏{‏ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا‏}‏ حاصل بهذه السببية بقطع النظر عن كون هذا السبب قد يخلفه ضده أيضاً، على أن بَين بسط الرزق وبين الفقر مراتب أخرى من الكفاف وضيق الرزق والخصاصة، والفقر، وهي متفاوتة فلا إشكال في التعليل‏.‏

وعن خبّاب بن الأرتّ «فينا نزلت هذه الآية، وذلك أنَّا نظرنا إلى أموال بني النَّضِير وبني قُريظة وبني قينُقاع فتمنَّيْناها فنزلت»، وهذا مما حمل قوماً على ظن هذه الآية مدنية كما تقدم في أول السورة‏.‏ وهذا إن صح عن خبَّاب فهو تأويل منه لأن الآية مكية وخبّاب أنصاري فلعله سمع تمثيل بعضهم لبعض بهذه الآية ولم يكن سمعها من قبل‏.‏ وروي أنها نزلت في أهل الصُّفَّة تمنوا سعة الرزق فنزلت، وهذا خبر ضعيف‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ لو جعل الله جميع الناس في بسطة من الرزق لاختلّ نظام حياتهم ببغي بعضهم على بعض لأن بعضهم الأغنياء تحدثه نفسه بالبغي لتوفر أسباب العُدوان كما علمت فيجد من المبغي عليه المقاومةَ وهكذا، وذلك مفض إلى اختلال نظامهم‏.‏ وبهذا تعلم أن بسط الرزق لبعض العباد كما هو مشاهَد لا يفضي إلى مثل هذا الفساد لأن الغِنى قد يصادف نفساً صالحة ونفساً لها وازع من الدين فلا يكون سبباً للبغي، فإن صادف نفساً خبيثة لا وازع لها فتلك حالة نادرة هي من جملة الأحوال السيئة في العالم ولها ما يقاومها في الشريعة وفصللِ القضاء وغَيرة الجماعة فلا يفضي إلى فساد عام ولا إلى اختلال نظام‏.‏

وإطلاق فعل التنزيل على إعطاء الرزق في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن ينزل بقدر‏}‏ استعارةٌ لأنه عطاء من رفيع الشأن، فشبه بالنازل من علوّ وتكرر مثل هذا الإطلاق في القرآن‏.‏

والقَدَر بفتحتين‏:‏ المِقدار والتعيين‏.‏

ومعنى ‏{‏ما يشاء‏}‏ أن مشيئته تعالى جارية على وفْق عِلمه وعلى ما ييسرّه له من ترتيب الأسباب على حسب مختلف صالح مخلوقاته وتعارض بعضها ببعض، وكل ذلك تصرفات وتقديرات لا يحيط بها إلا علمه تعالى‏.‏ وكلها تدخل تحت قوله ‏{‏إنه بعباده خبير بصير‏}‏، وهي جملة واقعة موقع التعليل للتي قبلها‏.‏

وافتتحت ب ‏(‏إنّ‏)‏ التي لم يُرد منها تأكيد الخبر ولكنها لمجرد الاهتمام بالخبر والإيذان بالتعليل لأنّ ‏(‏إنّ‏)‏ في مثل هذا المقام تقوم مقام فاء التفريع وتفيد التعليل والربط، فالجملة في تقدير المعطوفة بالفاء‏.‏

والجمع بين وصفي ‏{‏خبير‏}‏ و‏{‏بصير‏}‏ لأن وصف ‏{‏خبير‏}‏ دال على العلم بمصالح العبادِ وأحوالهم قبل تقديرها وتقدير أسبابها، أي العلم بما سيكون‏.‏ ووصف ‏{‏بصير‏}‏ دالّ على العلم المتعلق بأحوالهم التي حصلت، وفرق بين التعلقين للعلم الإلهي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏28‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ولكن ينزل بقدر ما يشاء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 27‏]‏ فإن الغيث سبب رزق عظيم وهو ما ينزله الله بقدر هوَ أعلم به، وفيه تذكير بهذه النعمة العظيمة على الناس التي منها معظم رزقهم الحقيقي لهم ولأنعامهم‏.‏ وخصها بالذكر دون غيرها من النعم الدنيوية لأنها نعمة لا يختلف الناس فيها لأنها أصل دوام الحياة بإيجاد الغذاء الصالح للناس والدواب، وبهذا يظهر وقع قوله‏:‏ ‏{‏ومن آياته خَلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 29‏]‏ عقب قوله هنا وهو الذي ينزل الغيث‏}‏‏.‏

واختيار المضارع في ‏{‏ينزل‏}‏ لإفادة تكرر التنزيل وتجديده‏.‏ والتعبير بالماضي في قوله‏:‏ ‏{‏من بعد ما قنطوا‏}‏ للإشارة إلى حصول القنوط وتقرره بمضي زمان عليه‏.‏

والغيث‏:‏ المطر الآتي بعد الجفاف، سمي غيْثاً بالمصدر لأن به غيث الناس المضطرين، وتقدم عنه قوله ‏{‏فيه يغاث الناس‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏49‏)‏‏.‏

والقنوط‏:‏ اليأس، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تكن من القانطين‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏55‏)‏‏.‏ والمراد‏:‏ من بعدما قنطوا من الغيث بانقطاع إمارات الغيث المعتادة وضيق الوقت عن الزرع‏.‏

وصيغة القصر في قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي ينزل الغيث‏}‏ تفيد قصر القلب لأن في السامعين مشركين يظنون نزول الغيث من تصرف الكواكب وفيهم المسلمون الغافلون، نزلوا منزلة من يظن نزول الغيث مَنُوطاً بالأسباب المعتادة لنزول الغيث لأنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن المطر من تصرف أنواء الكواكب‏.‏

وفي حديث زيد بن خالد الجُهني قال‏:‏ «خطبنا رسول الله على إثْر سماء كانت من الليل فقال‏:‏ أتدرون ماذا قال ربكم‏؟‏ قال، قال‏:‏ أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال‏:‏ مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال‏:‏ مُطرنا بنَوْء كذا ونَوْء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب»‏.‏ فهذا القصر بالنسبة للمشركين قصر قلب أصْلي وهو بالنسبة للمسلمين قصر قلب تنزيلي‏.‏

والنشر‏:‏ ضد الطَّيّ، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يلقاه منشوراً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏13‏)‏‏.‏ واستعير هنا للتوسيع والامتداد‏.‏ والرحمةُ هنا‏:‏ رحمته بالماء، وقيل‏:‏ بالشمس بعد المطر‏.‏ وضمير ‏{‏من بعد ما قنطوا‏}‏ عائد إلى ‏{‏عباده من قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي يقبل التوبة عن عباده‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن الآية نزلت بسبب رفع القحط عن قريش بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بهم بذلك بعد أن دام عليهم القحط سبع سنين أكلوا فيها الجِيَف والعِظامَ وهو المشار إليه بقوله في سورة الدخان ‏(‏15‏)‏ ‏{‏إنَّا كاشِفُوا العذاب قليلاً إنكم عائدون‏}‏ في «الصحيح» عن عبد الله بن مسعود ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قريشاً كذّبوه واستعصوا عليه فقال‏:‏ اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف‏.‏ فأتاه أبو سفيان فقال‏:‏ يا محمد إن قومك قد هلكوا فادعُ الله أن يكشف عنهم فدعا‏.‏ ثم قال‏:‏ تعودون بعد ‏"‏‏.‏

وقد كان هذا في المدينة ويؤيده ما روي أن هذه الآية نزلت في استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله الأعرابي وهو في خطبة الجمعة‏.‏ وفي رواية أن الذي كلمه هو كعب بن مرة وفي بعض الروايات في «الصحيح» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ اللهم عليك بقريش اللهم اشدُدْ وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ‏{‏ينزِّل‏}‏ بفتح النون وتشديد الزاي‏.‏ وقرأه الباقون بسكون النون وتخفيف الزاي‏.‏

وذكر صفتي ‏{‏الولي الحميد‏}‏ دون غيرهما لمناسبتهما للإغاثة لأن الوليَّ يحسن إلى مواليه والحميد يعطي ما يُحمد عليه‏.‏ ووصف حميد فعيل بمعنى مفعول‏.‏ وذكر المهدوي تفسير ‏{‏ينشر رحمته‏}‏ بطلوع الشمس بعد المطر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

لما كان إنزال الغيث جامعاً بين كونه نعمة وكونه آية دالة على بديع صنع الله تعالى وعظيم قدرته المقتضية انفراده بالإلهية، انتقل من ذكره إلى ذكر آيات دالة على انفراد الله تعالى بالإلهية وهي آية خلق العوالم العظيمة وما فيها مما هو مشاهد للناس دون قصد الامتنان‏.‏ وهذا الانتقال استطراد واعتراض بين الأغراض التي سياق الآيات فيها‏.‏

والآيات‏:‏ جمع آية، وهي العلامة والدليل على شيء‏.‏ والسياق دال على أن المراد آيات الإلهية‏.‏ والسموات‏:‏ العوالم العليا غير المشاهدة لنا والكواكب وما تجاوزَ الأرضَ من الجو‏.‏ والأرضُ‏:‏ الكرة التي عليها الحيوان والنبات‏.‏ والبث‏:‏ وضع الأشياء في أمكنة كثيرة‏.‏

والدابة‏:‏ ما يدُبّ على الأرض، أي يمشي فيشمل الطير لأن الطير يمشي إذا نزل وهو مما أريد في قوله هنا‏:‏ ‏{‏فيهما‏}‏ أي في الأرض وفي السماء، أي بعض ما يسمى بالسماء وهو الجو وهو ما يلوح للناظر مثل قبة زرقاء على الأرض في النهار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يروا إلى الطير مسخرات في جوّ السماء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 79‏]‏ فإطلاق الدابّة على الطير باعتبار أن الطير يدبّ على الأرض كثيراً لالتقاط الحب وغيرِ ذلك‏.‏ وأمّا الموجودات التي في السموات العُلى من الملائكة والأرواح فلا يطلق عليها اسم دابّة‏.‏ ويجوز أن تكون في بعض السماوات موجودات تدبّ فيها فإن الكواكب من السماوات‏.‏ والعلماء يترددون في إثبات سكان في الكواكب، وجوز بعض العلماء المتأخرين أن في كوكب المريخ سكاناً، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويخلق ما لا تعلمون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8‏]‏، على أنه قد يكون المراد من الظرفية في قوله‏:‏ ‏{‏فيهما‏}‏ ظرفية المجموع لا الجميع، أي ما بَثَّ في مجموع الأرض والسماء من دابّة، فالدابّة إنما هي على الأرض، ولما ذكرت الأرض والسماء مقترنتين وجاء ذكر الدواب جعلت الدواب مظروفة فيهما لأن الأرض محوطة بالسماوات ومتخيّلة منها كالمظروف في ظرفه، والمظروفُ في ظرف مظروف في ظرف مظروفه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مرَج البحرين يلتقيان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 19‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 22‏]‏ واللؤلؤ والمرجان يخرجان من أحد البحرين وهو البحر الملح لا من البحر العذب‏.‏

وجملة ‏{‏وهو على جمعهم إذا يشاء قدير‏}‏، معترضة في جُملة الاعتراض لإدماج إمكان البعث في عُرض الاستدلال على عظيم قدرة الله وعلى تفرده بالإلهية‏.‏

والمعنى‏:‏ أن القادر على خلق السماوات والأرض وما فيهما عن عدممٍ قادر على إعادة خلق بعض ما فيهما للبعث والجزاء لأن ذلك كله سواء في جواز تعلق القدرة به فكيف تعدُّونه محالاً‏.‏ وضمير الجماعة في قوله‏:‏ ‏{‏جمعهم‏}‏ عائد إلى ما بثّ فيهما من دابّة باعتبار أن الذي تتعلق الإرادة بجمعه في الحشر للجزاء هم العقلاء من الدوابّ أي الإنس‏.‏ والمراد ب ‏{‏جمعهم‏}‏ حشرهم للجزاء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يجمعكم ليوم الجمع‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وقد ورد في أحاديث في «الصحيح» أن بعض الدواب تحشر للانتِصاف مِمن ظلمها‏.‏ و‏{‏إذا‏}‏ ظرف للمستقبل وهو هنا مجرد عن تضمن الشرطية، فالتقدير‏:‏ حين يشاء في مستقبل الزمان، وهو متعلق ب ‏{‏جمعهم‏}‏‏.‏ وهذا الظرف إدماج ثان لإبطال استدلالهم بتأخر يوم البعث على أنه لا يقع كما حُكي عنهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون متَى هُو قل عسى أن يكون قريباً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 51‏]‏ و‏{‏يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 29، 30‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

لما تضمنت المنةُ بإنزال الغيث بعدَ القُنوط أن القوم أصابهم جهد من القحط بلغ بهم مبلغ القنوط من الغيث أعقبت ذلك بتنبيههم إلى أن ما أصابهم من ذلك البؤس هو جزاء على ما اقترفوه من الشرك تنبيهاً يبعثهم ويبعث الأمة على أن يلاحظوا أحوالهم نحو امتثال رضى خالقهم ومحاسبة أنفسهم حتى لا يحسبوا أن الجزاء الذي أُوعدوا به مقصور على الجزاء في الآخرة بل يعلموا أنه قد يصيبهم الله بما هو جزاء لهم في الدنيا، ولما كان ما أصاب قريشاً من القحط والجوع استجابةً لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم كما تقدم، وكانت تلك الدعوة ناشئة على ما لاقوْه به من الأذى، لا جرم كان ما أصابهم مسبَّباً على ما كسبت أيديهم‏.‏

فالجملة عطف على جملة ‏{‏وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 28‏]‏، وأطلق كسب الأيدي على الأفعال والأقواللِ المنكرة على وجه المجاز بعلاقة الإطلاق، أي بما صدر منكم من أقوال الشرك والأذَى للنبيء صلى الله عليه وسلم وفعللِ المُنكرات الناشئة عن دين الشرك‏.‏

والخطاب للمشركين ابتداء لأنهم المقصود من سياق الآيات كلها وهم أوْلى بهذه الموعظة لأنهم كانوا غير مؤمنين بوعيد الآخرة ويشمل المؤمنين بطريق القياس وبما دل على شمول هذا الحكم لهم من الأخبار الصحيحة ومن آيات أخرى‏.‏

والباء للسببية، أي سبب ما أصابكم من مصيبة هو أعمالكم‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ‏{‏بما كسبت أيديكم‏}‏ على أن ‏(‏مَا‏)‏ موصولة وهي مبتدأ‏.‏ و‏{‏بما كسبت أيديكم‏}‏ ظَرف مستقر هو خبر المبتدأ‏.‏ وكذلك كتبت في مصحف المدينة ومصحف الشام وقرأ الباقون ‏{‏فبما كسبت أيديكم‏}‏ بفاء قبل الباء وكذلك كتبت في مصحف البصرة ومصحف الكوفة، على أن ‏(‏مَا‏)‏ متضمنة معنى الشرط فاقترن خبرها بالفاء لذلك، أو هي شرطية والفاء رابطة لجواب الشرط ويكون وقوع فعل الشرط ماضياً للدلالة على التحقق‏.‏ و‏{‏مِن‏}‏ بيانية على القراءتَيْن لما في الموصول واسم الشرط من الإبهام‏.‏

والمصيبة‏:‏ اسم للحادثة التي تصيب بضُرّ ومكروه، وقد لزمتها هاء التأنيث للدلالة على الحادثة فلذلك تنوسيت منها الوصفية وصارت اسماً للحادثة المكروهة‏.‏

فقراءة الجمهور تُعيِّنُ معنى عموم التسبب لأفعالهم فيما يصيبهم من المصائب لأن ‏(‏ما‏)‏ في هذه القراءةِ إما شرطية والشرط دال على التسبب وإمّا موصولة مشبَّهة بالشرطية، فالموصولية تفيد الإيماء إلى علة الخبر، وتشبيهها بالشرطية يفيد التسبب‏.‏ وقراءةُ نافع وابن عامر لا تعيِّن التسبب بل تُجوزه لأن الموصول قد يراد به واحد معيَّن بالوصف بالصلة، فتحمل على العموم بالقرينة وبتأييد القراءة الأخرى لأن الأصل في اختلاف القراءات الصحيحة اتحاد المعاني‏.‏ وكلتا القراءتين سواء في احتمال أن يكون المقصود بالخطاب فريقا معيناً وأن يكون المقصود به جميع الناس، وكذلك في أن يكون المراد مصائب معيّنة حصلت في الماضي، وأن يراد جميع المصائب التي حصلت والتي تحصل‏.‏

ومعنى الآية على كلا التقديرين يفيد‏:‏ أن مما يصيب الناس من مصائب الدنيا ما هو جزاء لهم على أعمالهم التي لا يرضاها الله تعالى كمثل المصيبة أو المصائب التي أصابت المشركين لأجل تكذيبهم وأذاهم للرسول صلى الله عليه وسلم

ثم إن كانت ‏(‏مَا‏)‏ شرطية كانت دلالتها على عموم مفهومها المبين بحرف ‏{‏مِن‏}‏ البيانية أظهر لأن شرطها الماضي يصح أن يكون بمعنى المستقبل كما هو كثير في الشروط المصوغة بفعل المضيّ والتعليقُ الشرطي يمحّضها للمستقبل، وإن كانت ‏(‏مَا‏)‏ موصولة كانت دلالتها محتملة للعموم وللخصوص لأن الموصول يكون للعهد ويكون للجنس‏.‏

وأيَّاً مَّا كان فهو دال على أن من المصائب التي تصيب الناس في الدنيا ما سلطه الله عليهم جزاء على سوء أعمالهم وإذا كان ذلك ثابتاً بالنسبة لأناس معيَّنين كان فيه نِذارة وتحذير لغيرهم ممن يفعل من جنس أفعالهم أن تحل بهم مصائب في الدنيا جزاء على أعمالهم زيادة في التنكيل بهم إلا أن هذا الجزاء لا يطّرد فقد يجازي الله قوماً على أعمالهم جزاء في الدنيا مع جزاء الآخرة، وقد يترك قوماً إلى جزاء الآخرة، فجزاء الآخِرةِ في الخير الشر هو المطَّرد الموعود به، والجزاء في الدنيا قد يحصل وقد لا يحصل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويعفو عن كثير‏}‏ كما سنبينه‏.‏

وهذا المعنى قد تكرر ذكره في آيات وأحاديث كثيرة بوجه الكلية وبوجه الجزئية، فَمِمّا جاء بطريق الكلية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعَّمه فيقول ربي أكرمَني وأما إذا ما ابتلاه فقَدَر عليه رزقه فيقول ربي أهانني كَلاَّ بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضّون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لَمًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 15 19‏]‏ الآية، فقوله‏:‏ ‏{‏بل لا تكرمون اليتيم‏}‏ مرتب على قوله‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ المرتب على قوله‏:‏ ‏{‏فيقول ربّي أكرمنِ‏}‏ وقولِه‏:‏ ‏{‏فيقول ربي أهانني‏}‏، فدل على أن الكرامة والإهانة إنما تسببا على عدم إكرام اليتيم والحضّ على طعام المسكين، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وفي «سُنن الترمذي»‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا تصيب عبداً نَكبة فما فوقها أو دونَها إلا بذنْب وما يعفو الله عنه أكثر ‏"‏‏.‏ وهو ينظر إلى تفسير هذه الآية، وأما ما جاء على وجه الجزئية فمنه قوله تعالى حكاية عن نوح ‏{‏فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويُمْدِدكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 10 12‏]‏ وقوله حكاية عنه ‏{‏أن اعبُدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى‏}‏ في سورة نوح ‏(‏3، 4‏)‏‏.‏

وقولُه خطاباً لبني إسرائيل ‏{‏فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا‏}‏ الآية في سورة البقرة ‏(‏85‏)‏، وقوله ‏{‏إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 152‏]‏ وقال حكاية عن موسى ‏{‏أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏ ‏{‏وإذ تأذّن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب‏}‏ في الأعراف ‏(‏167‏)‏، وقال في فرعون ‏{‏فأخذه الله نكال الآخرة والأولى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 25‏]‏، وقال في المنافقين ‏{‏أو لا يرون أنهم يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكرون‏}‏ في براءة ‏(‏126‏)‏‏.‏

وفي حديث الترمذي قال النبي نقل الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكروهات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، من يحافظ عليهن عاش بخير ومات بخير‏.‏ وفي باب العقوبات من آخر سنن ابن ماجه عن النبي‏:‏ وإن الرجل ليُحْرم الرزق بالذنب يصيبه‏.‏ وفي البخاري‏}‏ قال خبّاب بن الأرتِّ «إنّا آمنا بالله وجاهدنا في سبيله فوجب أجرنا على الله فمِنّا من ذهب لم يأخذ من أجره شيئاً منهم مصعب بن عُمير، مات وما ترك إلا‏.‏‏.‏‏.‏ كنا إذا غطّينا بها رأسه بدَت رجلاه وإذا غطّينا رجليه بدا رأسه فأمرنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي بها رأسه ونضع على رجليه من الإذخر، ومنهم من عُجّلت له ثمرته فهو يهدبُها»‏.‏

وإذا كانت المصيبة في الدنيا تكون جزاء على فعل الشر فكذلك خيرات الدنيا قد تكون جزاء على فعل الخير قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62، 64‏]‏، وقال حكاية عن إخوة يوسف ‏{‏قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كُنّا لخاطئين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 91‏]‏ أي مُذنبين، أي وأنت لم تكن خاطئاً، وقال‏:‏ ‏{‏فآتاهم الله ثوابَ الدنيا وحسنَ ثواب الآخرة‏}‏ في آل عمران ‏(‏148‏)‏ وقال‏:‏ ‏{‏وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يَبْلُغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏82‏)‏، وقال‏:‏ ‏{‏وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليسْتَخلِفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وليبدلَنّهم من بعد خَوفهم أمناً‏}‏ في سورة النور ‏(‏55‏)‏‏.‏

وهذا كله لا ينقض الجزاء في الآخرة، فمن أنكروا ذلك وقالوا‏:‏ إن الجزاء إنما يحصل يوم القيامة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ملك يوم الدين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 4‏]‏ أي يوم الجزاء وإنما الدنيا دار تكليف والآخرة دار الجزاء، فالجواب عن قولهم هو‏:‏ أنه ليس كون ما يصيب من الشر والخير في الدنيا جزاء على عمل بمطّرد، ولا متعيّن له فإن لذلك أسباباً كثيرة وتدفعه أو تدفع بعضاً منه جوابر كثيرة والله يقدّر ذلك استحقاقاً ودفعاً ولكنه مما يزيده الله به الجزاء إن شاء‏.‏

وقد تصيب الصالحين نكبات ومصائب وآلام فتكون بلوَى وزيادة في الأجر ولِما لا يعلمه إلا الله، وقد تصيب المسرفين خيرات ونعم إمهالاً واستدراجاً ولأسباب غير ذلك مما لا يحصيه إلا الله وهو أعلم بخفايا خلقه ونواياهم ومقادير أعمالهم من حسنات وسيئات، واستعدادِ نفوسهم وعقولهم لمختلف مصادر الخير والشر قال تعالى‏:‏

‏{‏ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏‏.‏

ومما اختبط فيه ضعفاء المعرفة وقُصَّار الأنظار أنْ زَعَم أهلُ القول بالتناسخ أن هذه المصائب التي لا نرى لها أسباباً والخيرات التي تظهر في مواطن تحفّ بها مقتضِيات الشرور إنما هي بسبب جزاء الأرواح المودعة في الأجسام التي نشاهدها على ما كانت أصابته من مقتضيات الأحوال التي عرضت لها في مَرْآنا قبل أن توضع في هذه الأجساد التي نراها، وقد عَمُوا عما يرد على هذا الزعم من سؤال عن سبب إيداع الأرواح الشريرة في الأجساد الميسرة للصالحات والعكس فبئس ما يَفترون‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏ويعفو عن كثير‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم‏}‏، وضمير ‏{‏يعفو‏}‏ عائد إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏ومِن آياته خَلْق السماوات‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وهذا يشير إلى ما يتراءى لنا من تخلف إصابة المصيبة عن بعض الذين كسبت أيديهم جرائم، ومن ضد ذلك مما تصيب المصائب بعض الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهو إجمال يبيّنُه على الجملة أن ما يعلمه الله من أحوال عباده وما تغلب من حسناتهم على سيئاتهم، وما تقتضيه حكمة الله من إمهال بعض عباده أو من ابتلاء بعض المقربين، وتلك مراتب كثيرة وأحوال مختلفة تتعارض وتتساقط والموفَّق يبحث عن الأسباب فإن أعجَزته فوّض العلم إلى الله‏.‏

والمعنى‏:‏ أنه تعالى يعفو، أي يصفح فلا يصيب كثيراً من عباده الذين استحقّوا جزاء السوء بعقوبات دنيوية لأنه يعلم أن ذلك أليق بهم‏.‏ فالمراد هنا‏:‏ العفو عن المؤاخذة في الدنيا ولا علاقة لها بجزاء الآخرة فإن فيه أدلة أخرى من الكتاب والسنة‏.‏

و ‏{‏كثير‏}‏ صفة لمحذوف، أي عن خلق أو ناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏31‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ويعفو عن كثير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏، وهو احتراس، أي يعفو عن قدرة فإنكم لا تعجزونه ولا تغلبونه ولكن يعفو تفضلاً‏.‏

والمعجز‏:‏ الغالب غيره بانفلاته من قبضته‏.‏ والمعنى‏:‏ ما أنتم بفالتين من قدرة الله‏.‏ والخطاب للمشركين‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الله أصابكم بمصيبة القحط ثم عفا عنكم برفع القحط عنكم وما أنتم بمفلتين من قدرة الله إن شاء أن يصيبكم، فهو من معنى قوله‏:‏ ‏{‏إنَّا كَاشفُوا العذاببِ قليلاً إنَّكُم عائدون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 15‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان حين دعا برفع القحط عنهم‏:‏ تعودون بعد، وقد عادوا فأصابهم الله ببطشة بدر قال‏:‏ ‏{‏يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وتقييد النفي بقوله‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏ لإرادة التعميم، أي في أي مكان من الأرض لئلا يحسبوا أنهم في منعة بحلولهم في مكة التي أمّنها الله تعالى، وذلك أن العرب كانوا إذا خافوا سطوة ملك أو عظيم سكنوا الجهات الصعبة، كما قال النابغة ذاكراً تحذيره قومه من ترصد النعمان بن المنذر لهم وناصحاً لهم‏:‏

إِمَّا عُصيت فإني غير منفلت *** مني اللِصاب فجنبا حَرة النار

أو أضع البيت في صَماء مُضلمةٍ *** من المظالم تُدْعَى أمَّ صبار

تدافع الناسَ عنّا حين نركبها *** تقيد العَيْر لا يسري بها الساري

وجيء بالخبر جملة اسمية في قوله‏:‏ ‏{‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ للدلالة على ثبات الخبر ودوامه، أي نَفي إعجازهم ثابت لا يتخلف فهم في مكنة خالقهم‏.‏

ولما أفاد قوله‏:‏ ‏{‏وما أنتم بمعجزين في الأرض‏}‏ أن يكون لهم منجى من سُلطة الله أُتبع بنفي أن يكون لهم ملْجَأٌ يلجأُون إليه لينصرهم ويقيهم من عذاب الله فقال‏:‏ ‏{‏وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير‏}‏ أي ليس لكم وليّ يتولاكم فيمنعكم من سلطان الله ولا نصير ينصركم على الله إن أراد إصابتكم فتغلبونه، فجمَعت الآية نفي ما هو معتاد بينهم من وجوه الوقاية‏.‏

و ‏{‏من دون الله‏}‏ ظرف مستقرّ هو خبر ثان عن ‏{‏ولي‏}‏ و‏{‏نصير‏}‏، والخبر الأول هو ‏{‏لكم‏}‏‏.‏ وتقديم الخبرين للاهتمام بالخبر ولتعجيل يأسهم من ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 35‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏32‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏33‏)‏ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏34‏)‏ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

لما جرى تذكيرهم بأنّ ما أصابهم من مصيبة هو مسبب عن اقتراف أعمالهم، وتذكيرهم بحلول المصائب تارة وكشفها تارة أخرى بقوله‏:‏ ‏{‏ويعفو عن كثير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏، وأعقب بأنهم في الحالتين غير خارجين عن قبضة القدرة الإلهية سيق لهم ذكر هذه الآية جامعة مثالاً لإصابة المصائب وظهور مخائلها المخيفة المذكّرة بما يغفلون عنه من قدرة الله والتي قد تأتي بما أُنذروا به وقد تنكشف عن غير ضر، ودليلاً على عظيم قدرة الله تعالى وأنه لا محيص عن إصابة ما أراده، وإدماجاً للتذكير بنعمة السير في البحر وتسخير البحر للناس فإن ذلك نعمة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والفُلْككِ التي تجري في البحر بما يَنْفَعُ الناس‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏، فكانت هذه الجملة اعتراضاً مثل جملة ‏{‏ومن آياته خلق السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 29‏]‏‏.‏

والآيات‏:‏ الأدلة الدالة على الحق‏.‏

والجواري‏:‏ جمع جارية صفة لمحذوف دل عليه ذكر البحر، أي السفن الجواري في البحر كقوله تعالى في سورة الحاقة ‏(‏11‏)‏ ‏{‏إنّا لَمَّا طَغَى الماء حملناكم في الجارية‏}‏ وعُدل عن‏:‏ الفلك إلى ‏{‏الجواري‏}‏ إيماء إلى محل العبرة لأن العبرة في تسخير البحر لجريها وتفكير الإنسان في صنعها‏.‏

والأعلام‏:‏ جمع عَلَم وهو الجبل، والمراد‏:‏ بالجواري السفن العظيمة التي تسع ناساً كثيرين، والعبرة بها أظهر والنعمة بها أكثر‏.‏

وكتبت كلمة ‏{‏الجوار‏}‏ في المصحف بدون ياء بعد الراء ولها نظائر كثيرة في القرآن في الرسم والقراءة، وللقراء في أمثالها اختلاف هي التي تُدعى عند علماء القراءات بالياءات الزوائد‏.‏

وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ‏{‏الجواري‏}‏ في هذه السورة بإثبات الياء في حالة الوصل وبحذفها في حالة الوقف‏.‏ وقرأ ابن كثير ويعقوب بإثبات الياء في الحالين‏.‏ وقرأ الباقون بحذفها في الحالين‏.‏

وإسكان الرياح‏:‏ قطع هبوبها، فإن الريح حركة وتموّج في الهواء فإذا سكن ذلك التموّج فلا ريح‏.‏

وقرأ نافع ‏{‏الريَاح‏}‏ بلفظ الجمع‏.‏ وقرأه الباقون ‏{‏الريح‏}‏ بلفظ المفرد‏.‏ وفي قراءة الجمهور ما يدل على أن الريح قد تطلق بصيغة الإفراد على الريح الخير، وما قيل‏:‏ إن الرياح للخير والريح للعذاب في القرآن هو غالب لا مطّرد‏.‏ وقد قرئ في آيات أخرى الرياح والريح في سياق الخير دون العذاب‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يشأ‏}‏ بهمزة ساكنة‏.‏ وقرأه ورش عن نافع بألف على أنه تخفيف للهمزة‏.‏

والرواكد‏:‏ جمع راكدة، والركود‏:‏ الاستقرار والثبوت‏.‏

والظهْر‏:‏ الصلب للإنسان والحيوان، ويطلق على أعلى الشيء إطلاقاً شائعاً‏.‏ يقال‏:‏ ظَهْر البيت، أي سطحه، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏ وأصله‏:‏ استعارة فشاعت حتى قاربت الحقيقة، فظَهْر البحر سطح مائه البادي للناظر، كما أطلق ظهْر الأرض على ما يبدو منها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما تَرك على ظهرها من دابّة‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وجُعل ذلك آيةً لكل صبّار شكور لأن في الحالتين خوفاً ونجاة، والخوف يدعو إلى الصبر، والنجاةُ تدعو إلى الشكر‏.‏

والمراد‏:‏ أن في ذلك آيات لكل مؤمن متخلق بخلُق الصبر على الضرّاء والشكرِ للسرّاء، فهو يعتبر بأحوال الفُلْك في البحر اعتباراً يقارنه الصبر أو الشكر‏.‏

وإنما جعل ذلك آية للمؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بتلك الآية فيعلمون أن الله منفرد بالإلهية بخلاف المشركين فإنها تمر بأعينهم فلا يعتبرون بها‏.‏

وقوله‏:‏ أو يوبقهن‏}‏ عطف على جزاء الشرط‏.‏

و ‏{‏يوبقهن‏}‏‏:‏ يهلكهن‏.‏ والإيباق‏:‏ الإهلاك، وفعله وَبَق كوَعد‏.‏ والمراد به هنا الغرق، فيجوز أن يكون ضمير جماعة الإناثثِ عائداً إلى ‏{‏الجواري‏}‏ على أن يستعار الإيباق للإغراق لأنّ الإغراقَ إتلاف‏.‏ ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى الراكبين على تأويل معاد الضمير بالجماعات بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏بما كسبوا‏}‏ فهو كقوله‏:‏ ‏{‏وعلى كل ضامرٍ يأتين من كلّ فجّ عميق ليشهدُوا منافع لهم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏‏.‏

والباء للسببية وهو في معنى قوله‏:‏ ‏{‏وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏‏.‏

ويعف عن كثير‏}‏ عطف على ‏{‏يوبقهن‏}‏ فهو في معنى جزاء للشرط المقدّر، أي وإن يشأ يعفُ عن كثير فلا يوبقهم مع استحقاقهم أن يُوبَقوا‏.‏ وهذا العطف اعتراض‏.‏

‏(‏35‏)‏ ‏{‏كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ الذين يجادلون فى ءاياتنا مَا لَهُمْ‏}‏‏.‏

قرأ نافع وابن عامر ويعقوب برفع ‏{‏ويعلمُ‏}‏ على أنه كلام مستأنف‏.‏ وقرأه الباقون بالنصب‏.‏

فأما الاستئناف على قراءة نافع وابن عامر ويعقوب فمعناه أنه كلام أنُف لا ارتباط له بما قبله، وذلك تهديد للمشركين بأنهم لا محيص لهم من عذاب الله لأنه لما قال‏:‏ ‏{‏ومن آياته الجواري في البحر‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 32‏]‏ صار المعنى‏:‏ ومن آيات انفراده بالإلهية الجواري في البحر‏.‏ والمشركون يجادلون في دلائل الوحدانية بالإعْراض والانصراف عن سماعها فهددهم الله بأن أعلمهم أنهم لا محيص لهم، أي من عذابه، فحُذف متعلق المحيص إبهاماً له تهويلاً للتهديد لتذهب النفس كل مذهب ممكن فيكون قوله‏:‏ ويعلم الذين يجادلون‏}‏ خبَراً مراداً به الإنشاء والطلب فهو في قوة‏:‏ وليعلمْ الذين يجادلون، أو اعلموا يا من يجادلون، وليس خبراً عنهم لأنهم لا يؤمنون بذلك حتى يعلموه‏.‏

وأما قراءة النصب فهي عند سيبويه وجمهور النحاة على العطف على فعللٍ مدخول للام التعليل، وتضمَّن ‏(‏أنْ‏)‏ بعده‏.‏ والتقدير‏:‏ لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون الخ‏.‏ وسموا هذه الواو واو الصَّرفْ لأنها تصرف ما بعدها عن أن يكون معطوفاً على ما قبلها، إلى أن يكون معطوفاً على فعل متصيَّد من الكلام، وهذا قول سيبويه في باب ما يرتفع بين الجزمين وينجزم بينهما، وتبعه في «الكشاف»، وذهب الزجاج إلى أن الواو واو المعية التي ينصب الفعل المضارع بعدها ب ‏(‏أن‏)‏ مضمرة‏.‏

ويجوز أن يجعل الخبر مستعملاً في مقاربة المخبر به كقولهم‏:‏ قد قامت الصلاة، فلما كان علمهم بذلك يوشك أن يَحصل نُزّل منزلة الحاصل فأخبر عنهم به، وعلى هذا الوجه يكون إنذاراً بعقاب يحصل لهم قريب وهو عذاب السيف والأسْر يوم بدر‏.‏

وذكر فعل ‏{‏يعلَم‏}‏ للتنويه والاعتناء بالخبر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعْلموا أنكم ملاقُوه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏223‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏41‏)‏، وقول النبي حين رأى أبا مسعود الأنصاري يضرب غلاماً له فناداه‏:‏ اعْلَم أبَا مسعود اعْلم أبَا مسعود، قال أبو مسعود‏:‏ فالتفتُّ فإذا هو رسول الله فإذا هو يقول‏:‏ اعلَم أبا مسعود‏.‏ فألقيت السوط من يدي، فقال لي‏:‏ إن الله أقدر عليك منكَ على هذا الغلام رواه مسلم أواخر كتاب الإيمان‏.‏ وتقدم معنى الذين يجادلون في آياتنا‏}‏ في هذه السورة‏.‏

و ‏{‏مَا‏}‏ نافية، وهي معلِّقة لفعل ‏{‏يعلم‏}‏ عن نصب المفعلوين‏.‏

والمَحِيص‏:‏ مصدر ميمي من حاص، إذا أخذ في الفرار ومَال في سَيره، وفي حديث أبي سفيان في وصْف مجلس هرقل «فحاصُوا حَيْصة حُمر الوحش وأغلقت الأبواب»‏.‏ والمعنى‏:‏ ما لهم من فرار ومهرب من لقاء الله‏.‏ والمراد‏:‏ ما لهم من محيد ولا ملجأ‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يجدون عنها محيصاً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏121‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

تفريع على جملة ‏{‏ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 27‏]‏ إلى آخرها، فإنها اقتضت وجود منعَم عليه ومحْروم، فذُكِّروا بأن ما أوتوه من رزق هو عَرَض زائل، وأن الخير في الثواب الذي ادخره الله للمؤمنين، مع المناسبة لما سبقه من قوله‏:‏ ‏{‏ويَعْفُ عن كثير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 34‏]‏ من سلامة الناس من كثير من أهوال الأسفار البحرية فإن تلك السلامة نعمة من نعم الدنيا، ففرعت عليه الذكرى بأن تلك النعمة الدنيوية نعمة قصيرة الزمان صائرة إلى الزوال فلا يَجعلها الموفَّقُ غاية سعيه وليسعَ لعمل الآخرة الذي يأتي بالنعيم العظيم الدائم وهو النعيم الذي ادّخره الله عنده لعباده المؤمنين الصالحين‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ أوتيتم‏}‏ للمشركين جرياً على نسق الخطاب السابق في قوله‏:‏ ‏{‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 31‏]‏، وينسحب الحكم على المؤمنين بلحن الخطاب، ويجوز أن يكون الخطاب لِجميع الأمة، فالفاء الأولى للتفريع، ومَا‏}‏ موصولة ضمنت معنى الشرط والفاء الثانية في قوله‏:‏ ‏{‏فمتاع الحياة الدنيا‏}‏ داخلة على خبر ‏{‏ما‏}‏ الموصولة لتضمنها معنى الشرط وإنما لم نَجعل ‏{‏ما‏}‏ شرطية لأن المعنى على الإخبار لا على التعليق، وإنما تضمن معنى الشرط وهو مجرد ملازمة الخبر لمدلول اسم الموصول كما تقدم نظيره آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ في قراءة غير نافع وابننِ عامر‏.‏

ويتعلق قوله‏:‏ خَيْرٌ وأبقى للذين آمنوا‏}‏ على وجه التنازع، واتبعت صلة ‏(‏الذين آمنوا‏)‏ بما يدل على عملهم بإيمانهم في اعتقادهم فعطف على الصلة أنهم يتوكلون على ربّهم دون غيره‏.‏ وهذا التوكل إفراد لله بالتوجُّه إليه في كل ما تعجز عنه قدرة العبد، فإن التوجه إلى غيره في ذلك ينافي التوحيد لأن المشركين يتوكلون على آلهتهم أكثر من توكلهم على الله، ولكون هذا متمّماً لمعنى ‏(‏الذين آمنوا‏)‏ عطف على الصلة ولم يُؤت معه باسم موصول بخلاف ما ورد بعده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

أُتبع الموصول السابق بموصولات معطوففٍ بعضُها على بعض كما تعطف الصفات للموصوف الواحد، فكذلك عطف هذه الصلات وموصولاتها أصحابها متحدون وهم الذين آمنوا بالله وحده وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏والذين يؤمنون بما أنزل إليك‏}‏ الآية في سورة البقرة ‏(‏4‏)‏‏.‏

والمقصود من ذلك‏:‏ هو الاهتمام بالصلات فيكرر الاسم الموصول لتكون صلتُه معتنى بها حتى كأنَّ صاحبها المتّحد منزَّلٌ منزلة ذوات‏.‏ فالمقصود‏:‏ ما عند الله خير وأبقى للمؤمنين الذين هذه صفاتهم، أي أتْبَعوا إيمانهم بها‏.‏ وهذه صفات للمؤمنين باختلاف الأحوال العارضة لهم فهي صفات متداخلة قد تجتمع في المؤمن الواحد إذا وُجدت أسبابها وقد لا تجتمع إذا لم توجد بعض أسبابها مثل ‏{‏وأمرُهم شورى بينهم‏}‏ ‏(‏38‏)‏‏.‏

وقرأ الجمهور كبائر‏}‏ بصيغة الجمع‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلَف ‏{‏كَبِير‏}‏ بالإفراد، فكبائر الإثم‏:‏ الفعلات الكبيرة من جنس الإثم وهي الآثام العظيمة التي نهى الشرع عنها نهياً جازماً، وتوعد فاعلَها بعقاب الآخرة مثل القذف والاعتداء والبغي‏.‏ وعلى قراءة ‏{‏كبيرة الإثم‏}‏ مراد به معنى كبائر الإثم لأن المفرد لما أضيف إلى معرَّف بلام الجنس من إضافة الصفةِ إلى الموصوف كان له حكم ما أضيف هو إليه‏.‏

و ‏{‏الفواحش‏}‏‏:‏ جمع فاحشة، وهي‏:‏ الفعلة الموصوفة بالشناعة والتي شدد الدِّين في النهي عنها وتوعّد عليها بالعذاب أو وضعَ لها عقوبات في الدنيا للذي يُظهر عليه من فاعليها‏.‏ وهذه مثل قتل النفس، والزنا، والسرقة، والحرابة‏.‏ وتقدّم عند قوله‏:‏ ‏{‏وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏28‏)‏‏.‏

وكبائر الإثم والفواحش قد تدعو إليها القوة الشاهية‏.‏ ولما كان كثير من كبائر الإثم والفواحش متسبباً على القوة الغضبية مثل القتل والجراح والشتم والضرب أعقب الثناء على الذين يجتنبونها، فذكر أن من شيمتهم المغفرة عند الغضب، أي إمساك أنفسهم عن الاندفاع مع داعية الغضب فلا يغول الغضب أحلامهم‏.‏

وجيء بكلمة ‏{‏إذَا‏}‏ المضمنة معنى الشرط والدالّة على تحقق الشرط، لأن الغضب طبيعة نفسية لا تكاد تخلو عنه نفس أحد على تفاوت‏.‏ وجملة ‏{‏وإذا ما غضبوا هم يغفرون‏}‏ عطف على جملة الصلة‏.‏

وقدم المسند إليه على الخبر الفعلي في جملة ‏{‏هم يغفرون‏}‏ لإفادة التقوّي‏.‏

وتقييد المسند ب ‏{‏إذا‏}‏ المفيدة معنى الشرط للدّلالة على تكرر الغفران كلما غضبوا‏.‏

والمقصود من هذا معاملة المسلمين بعضِهم مع بعض فلا يعارضه قوله الآتي ‏{‏والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 39‏]‏ لأن ذلك في معاملتهم مع أعداء دينهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

هذا موصول آخر وصلة أخرى‏.‏ ومدلولهما من أعمال الذين آمنوا التي يدعوهم إليها إيمانهم، والمقصود منها ابتداءً هُم الأنصار، كما روي عن عبد الرحمن بن زيد‏.‏ ومعنى ذلك أنهم من المؤمنين الذين تأصل فيهم خُلق الشورى‏.‏

وأما الاستجابة لله فهي ثابتة لجميع من آمن بالله لأن الاستجابة لله هي الاستجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه دعاهم إلى الإسلام مبلِّغاً عن الله فكأنَّ الله دعاهم إليه فاستجابوا لدعوته‏.‏ والسين والتاء في ‏{‏استجابوا‏}‏ للمبالغة في الإجابة، أي هي إجابة لا يخالطها كراهية ولا تردد‏.‏

ولام له للتقوية يقال‏:‏ استجاب له كما يقال‏:‏ استجابه، فالظاهر أنه أريد منه استجابة خاصة، وهي إجابة المبادرة مثل أبي بكر وخديجة وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص ونقباء الأنصار أصحاب ليلة العقبة‏.‏

وجُعلت ‏{‏وأمرهم شورى بينهم‏}‏ عطفاً على الصلة‏.‏ وقد عرف الأنصار بذلك إذ كان التشاور في الأمور عادتهم فإذا نزل بهم مهمٌّ اجتمعوا وتشاوروا وكان من تشاورهم الذي أثنى الله عليهم به هو تشاورهم حين ورد إليهم نقباؤُهم وأخبروهم بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن آمنوا هم به ليلة العقبة، فلما أبلغوهم ذلك اجتمعوا في دار أبي أيوب الأنصاري فأجمع رأيهم على الإيمان به والنصر له‏.‏

وإذ قد كانت الشورى مفضية إلى الرشد والصواب وكان من أفضل آثارها أن اهتدى بسببها الأنصار إلى الإسلام أثنى الله بها على الإطلاق دون تقييد بالشورى الخاصَّة التي تشاور بها الأنصار في الإيمان وأيُّ أمر أعظم من أمر الإيمان‏.‏

والأمر‏:‏ اسم من أسماء الأجناس العامة مثل‏:‏ شيءٍ وحادثثٍ‏.‏ وإضافة اسم الجنس قد تفيد العموم بمعونة المقام، أي جميع أمورهم متشاور فيها بينهم‏.‏

والإخبار عن الأمر بأنه شورى من قبيل الإخبار بالمصدر للمبالغة‏.‏ والإسناد مجاز عقلي لأن الشورى تسند للمتشاورين، وأما الأمر فهو ظرف مجازي للشورى، ألا ترى أنه يقال‏:‏ تشاورا في كذا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر فاجتمع في قوله‏:‏ وأمرهم شورى‏}‏ مجاز عقلي واستعارة تبعية ومبالغة‏.‏

والشُورى مصدر كالبُشرى والفُتيا هي أن قاصد عمل يطلب ممن يَظُنّ فيه صوابَ الرأي والتدبير أن يشير عليه بما يراه في حصول الفائدة المرجوّة من عمله، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏159‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بينهم‏}‏ ظرف مستقر هو صفة ل ‏{‏شورى‏}‏‏.‏ والتشاور لا يكون إلا بين المتشاورين فالوجه أن يكون هذا الظرف إيمَاء إلى أن الشورى لا ينبغي أن تتجاوز من يهمهم الأمر من أهل الرأي فلا يُدخل فيها من لا يهمه الأمر، وإلى أنها سرّ بين المتشاورين قال بشار‏:‏

ولا تُشْهد الشورى أمراً غيرَ كَاتم ***

وقد كان شيخ الإسلام محمود ابن الخوجة أشار في حديث جرى بيني وبينه إلى اعتبار هذا الإيماء إشارة بيده حين تلا هذه الآية، ولا أدري أذلك استظهار منه أم شيء تلقاه من بعض الكتب أو بعض أساتذته وكلا الأمرين ليس ببعيد عن مثله‏.‏

وأثنى الله عليهم بإقامة الصلاة، فيجوز أن يكون ذلك تنويهاً بمكانة الصلاة بأعمال الإيمان، ويجوز أن يكون المراد إقامة خاصة، فإذا كانت الآية نازلة في الأنصار أو كان الأنصار المقصود الأول منها فلعل المراد مبادرة الأنصار بعد إسلامهم بإقامة الجماعة إذ سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم من يُقرئهم القرآنَ ويَؤُمهم في الصلاة فأرسل إليهم مُصعب بن عُمَير وذلك قبل الهجرة‏.‏

وأثنى عليهم بأنهم ينفقون مِما رزقهم الله، وللأنصار الحظ الأوفر من هذا الثناء، وهو كقوله فيهم ‏{‏ويؤثرون على أنفسهم ولو كانَ بهم خصاصة‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وذلك أن الأنصار كانوا أصحاب أموال وعمل فلما آمنوا كانوا أول جماعة من المؤمنين لهم أموال يعينون بها ضعفاء المؤمنين منهم ومن المهاجرين الأولين قبل هجرة النبي‏.‏ فأما المؤمنون من أهل مكة فقد صادر المشركون أموالهم لأجل إيمانهم، قال النبي وهل ترك لَنا عَقِيل من دار‏.‏

وقوله‏:‏ ومما رزقناهم ينفقون‏}‏ إدماج للامتنان في خلال المدح وإلا فليس الإنفاق من غير ما يرزقه المنفق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

هذا موصول رابع وصلته خلق أراده الله للمسلمين، والحظ الأول منه للمؤمنين الذين كانوا بمكة قبل أن يهاجرون فإنهم أصابهم بغي المشركين بأصناف الأذى من شتم وتحقير ومصادرة الأموال وتعذيب الذوات فصبروا عليه‏.‏

و ‏{‏البغي‏}‏‏:‏ الاعتداء على الحق، فمعنى إصابتِه إياهم أنه سُلّط عليهم، أي بغي غيرهم عليهم وهذه الآية مقدَّمة لقوله في سورة الحج ‏(‏39، 40‏)‏ ‏{‏أُذِن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا وإنَّ الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق‏}‏ فإن سورة الحج نزلت بالمدينة‏.‏ وإنما أثنى الله عليهم بأنهم ينتصرون لأنفسهم تنبيهاً على أن ذلك الانتصار ناشئ على ما أصابهم من البغي فكان كل من السبب والمسبب موجِب الثناء لأن الانتصار محمدة دينية إذ هو لدفع البغي اللاحق بهم لأجل أنهم مؤمنون، فالانتصار لأنفسهم رادع للباغين عن التوغل في البغي على أمثالهم، وذلك الردع عون على انتشار الإسلام، إذ يقطع ما شأنه أن يخالج نفوس الراغبين في الإسلام من هَوَاجِس خوفهم من أن يُبغى عليهم‏.‏

وبهذا تعلم أن ليس بين قوله هنا ‏{‏والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون‏}‏ وبين قوله آنفاً ‏{‏وإذا ما غضِبوا هم يغفرون‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 37‏]‏ تعارضٌ لاختلاف المقامين كما علمت آنفاً‏.‏

وعن إبراهيم النَّخعي‏:‏ كان المؤمنون يكرهون أن يُستذلّوا وكانوا إذا قدَروا عفَوا‏.‏

وأدخل ضمير الفصل بقوله‏:‏ هم ينتصرون‏}‏ الذي فصل بين الموصول وبين خبره لإفادة تقوّي الخبر، أي لا ينبغي أن يترددوا في الانتصار لأنفسهم‏.‏

وأوثر الخبر الفعلي هنا دون أن يقال‏:‏ منتصرون، لإفادة معنى تجدد الانتصار كلما أصابهم البغي‏.‏

وأما مجيء الفعل مضارعاً فلأن المضارع هو الذي يجيء معه ضمير الفصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

هذه جمل ثلاث مُعترضة الواحدة تلو الأخرى بين جملة ‏{‏والذين إذا أصابهم البغي‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 39‏]‏ الخ وجملة ‏{‏ولَمَن انتصر بعد ظلمه‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وفائدة هذا الاعتراض تحديد الانتصار والترغيب في العفو ثم ذم الظلم والاعتداء، وهذا انتقال من الإذن في الانتصار من أعداء الدين إلى تحديد إجرائه بين الأمة بقرينة تفريع فمن عفا وأصلح‏}‏ على جملة ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏ إذ سمى ترك الانتصار عفواً وإصلاحاً ولا عفو ولا إصلاح مع أهل الشرك‏.‏

وبقرينة الوعد بأجر من الله على ذلك العفو ولا يكون على الإصلاح مع أهل الشرك أجر‏.‏

و ‏{‏سيئة‏}‏ صفة لمحذوف، أي فعلة تسوء من عومل بها‏.‏ ووزن ‏{‏سيئة‏}‏ فَيْعِلة مبالغة في الوصف مِثل‏:‏ هيّنة، فعينها ياء ولامها همزة، لأنها من ساء، فلما صيغ منها وزن فَيْعِلَة التقت يَاءَاننِ فأدغمَتا، أي أن المُجازيء يجازيء من فَعَل معه فَعلةً تسوءه بفعلة سيئة مثل فعلتِه في السوء، وليس المراد بالسيئة هنا المعصية التي لا يرضاها الله، فلا إشكال في إطلاق السيئة على الأذَى الذي يُلحق بالظالم‏.‏

ومعنى ‏{‏مثلها‏}‏ أنها تكون بمقدارها في متعارف الناس، فقد تكون المماثلة في الغرض والصورة وهي المماثلة التامة وتلك حقيقةُ المماثلة مثل القصاص من القاتل ظلماً بمثل ما قَتَل به، ومن المعتدي بجراح عمد، وقد تتعذر المماثلة التامة فيصار إلى المشابهة في الغرض، أي مقدار الضرّ وتلك هي المقاربة مثل تعذر المشابهة التامة في جزاء الحروب مع عدوّ الدين إذ قد يلحق الضر بأشخاص لم يصيبوا أحداً بضرّ ويَسْلَمُ أشخاص أصابوا الناس بضرّ، فالمماثلة في الحَرب هي انتقام جماعة من جماعة بمقدار ما يُشفي نفوس الغالبين حسبما اصطلح عليه الناس‏.‏

ومن ذلك أيضاً إتلاف بعض الحواس بسبب ضرب على الرأس أو على العين فيصار إلى الدية إذ لا تضبط إصابة حاسّة الباغي بمثل ما أصاب به حاسّة المعتدَى عليه‏.‏ وكذلك إعطاء قيم المتلفات من المقوَّمات إذ يتعسر أن يكلف الجاني بإعطاء مثل ما أتلفه‏.‏

ومن مشاكل المماثلة في العقوبة مسألة الجماعة يتمالؤون على قتل أحد عمداً، أو على قطع بعض أعضائه؛ فإن اقتص من واحد منهم كان ذلك إفلاتاً لبقية الجناة من عقوبة جرمهم، وإن اقتص من كل واحد منهم كان ذلك زيادة في العقوبة لأنهم إنما جنَوا على واحد‏.‏

فمن العلماء من لم يعتدَّ بتلك الزيادة ونظَرَ إلى أن كل واحد منهم جنى على المجني عليه فاستحق الجزاء بمثل ما ألحقه بالمجنّي عليه، وجَعَل التعدّد مُلغى وراعى في ذلك سدّ ذريعة أن يتحيّل المجرم على التنصل من جرمه بضم جماعة إليه، وهذا قول مالك والشافعي أخذاً من قضاءِ عمر بن الخطاب، وقوله‏:‏ لو اجتمع على قتله أهلُ صنعاء لاقتصصتُ منهم‏.‏

ومنهم من عدل عن الزيادة مطلقاً وهو قول داود الظاهري، ومنهم من عدل عن تلك الزيادة في القطع ولم يعدل عنها في القتل، ولعل ذلك لأن عمر بن الخطاب قضى به في القتل ولم يؤثر عن أحد في القطع‏.‏ وربما ألغى بعضهم الزيادة إذا كان طريق ثبوت الجناية ضعيفاً مثل القسامة مع اللوث عند من يرى القصاص بها فإن مالكاً لم ير أن يُقتل بالقسامة أكثرُ من رجل واحد‏.‏

واعلم أن المماثلة في نحو هذا تحقق بقيمة الغرم كما اعتبرت في الديات وأروش الجِنايات‏.‏

وجملة ‏{‏إنه لا يحب الظالمين‏}‏ في موضع العلة لكلام محذوف دل عليه السياق فيقدر‏:‏ أنه يحب العافين كما قال ‏{‏والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 134‏]‏‏.‏ ونصْرُه على ظالمه موكول إلى الله وهو لا يحب الظالمين، أي فيؤجر الذين عفوا وينتصر لهم على الباغين لأنه لا يحب الظالمين فلا يهمل الظالم دون عقاب ‏{‏ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً فلا يُسرف في القتل إنه كان منصوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وقد استفيد حبّ الله العافين من قوله‏:‏ إنه لا يحب الظالمين‏}‏، وعلى هذا فمَا صْدَقُ الظالمين‏:‏ هم الذين أصابوا المؤمنين بالبغي‏.‏

ويجوز أيضاً أن يكون التعليل بقوله‏:‏ ‏{‏إنه لا يحب الظالمين‏}‏ منصرفاً لمفهوم جملة ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏ أي دون تجاوز المماثلة في الجزاء كقوله‏:‏ ‏{‏وإن عاقبتُم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 126‏]‏ فيكون مَا صْدَقُ ‏{‏الظالمين‏}‏‏:‏ الذين يتجاوزون الحد في العقوبة من المؤمنين على أن يكون تحذيراً من مجاوزة الحدّ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من حامَ الحمى يوشك أن يقع فيه ‏"‏‏.‏

وقد شملت هذه الآية بموقعها الاعتراضي أصول الإرشاد إلى ما في الانتصار من الظالم وما في العفو عنه من صلاح الأمة، ففي تخويل حق انتصار المظلوم من ظالمه ردع للظالمين عن الإقدام على الظلم خوفاً من أن يأخذ المظلوم بحقه، فالمعتدي يحسب لذلك حسابه حين الهمّ بالعدوان‏.‏

وفي الترغيب في عفو المظلوم عن ظالمه حفظ آصرة الأخوة الإسلامية بين المظلوم وظالمه كيلا تنثَلِم في آحاد جزئياتها بل تزداد بالعفو متانة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 34‏]‏‏.‏

على أن الله تعالى لَمْ يهمل جانب ردع الظالم فأنبأ بتحقيق أنه بمحل من غضب الله عليه إذ قال‏:‏ إنه لا يحب الظالمين‏}‏ ولا ينحصر ما في طي هذا من هول الوعيد‏.‏

وتنشأ على معنى هذه الآية مسألة غرَّاء تجاذبتها أنظار السلف بالاعتبار، وهي‏:‏ تحليل المظلوم ظالمه من مظلمته‏.‏ قال أبو بكر بن العربي في «الأحكام»‏:‏ روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك وسئل عن قول سعيد بن المسيّب‏:‏ لا أحلّل أحداً، فقال‏:‏ ذلك يختلف‏.‏ فقلت‏:‏ الرجل يسلف الرجل فيهلِكُ ولا وفاء له قال‏:‏ أرى أن يحلله، وهو أفضل عندي لقول الله تعالى‏:‏

‏{‏الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 18‏]‏، وإن كان له فضل يُتبع فقيل له‏:‏ الرجل يظلم الرجل، فقال‏:‏ لا أرى ذلك، وهو عندي مخالف للأول لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما السبيل على الذين يظلمون الناس‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 42‏]‏، ويقول تعالى‏:‏ ‏{‏ما على المحسنين من سبيل‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏ فلا أرى أن تجعله من ظلمه في حلّ‏.‏

قال ابن العربي فصار في المسألة ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ لا يحلّله بحال قاله ابن المسيّب‏.‏ والثاني‏:‏ يحلّله، قاله ابن سيرين، زاد القرطبي وسليمان بن يسار، الثالث‏:‏ إن كان مالاً حلّله وإن كان ظلماً لم يحلّله وهو قول مالك‏.‏

وجه الأول‏:‏‏}‏ أن لا يُحلّ ما حرم الله فيكون كالتبديل لحكم الله‏.‏

ووجه الثاني‏:‏ أنه حقه فله أن يسقطه‏.‏

ووجه الثالث‏:‏ أن الرجل إذا غُلِب على حقكَ فمن الرفق به أن تحلله، وإن كان ظالماً فمن الحق أن لا تتركه لئلا يغْتَرّ الظَّلَمة ويسترسلوا في أفعالهم القبيحة‏.‏

وذكَر حديث مسلم عن عُبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال‏:‏ خرجت أنا وأبي لطلب العلم في هذا الحيّ من الأنصار قبْل أن يهلكوا فكان أول من لقينا أبو اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبي‏:‏ أرى في وجهك سنعة من غضب فقال‏:‏ أجَل كان لي على فلان دين، فأتيت أهله وقلت‏:‏ أثَمّ هو‏؟‏ قالوا‏:‏ لا فخرج ابن له فقلت له‏:‏ أين أبوك‏؟‏ فقال سمع صوتك فدخل أريكة أمي‏.‏ فقلتُ‏:‏ اخرجْ إليَّ، فخرج‏.‏ فقلت‏:‏ ما حملك على أن اختبأت مني‏؟‏ قال‏:‏ خشيت والله أن أحدثك فأكذبك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنتُ والله معسراً‏.‏ قال‏:‏ فأتى بصحيفته فمحاها بيده، قال‏:‏ إن وجدت قضاء فاقض وإلاّ فأنت في حلّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏41‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون عطفاً على جملة ‏{‏فمن عفا وأصلح‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ فيكون عذراً للذين لم يعفوا، ويجوز أنها عطف على جملة ‏{‏هم ينتصرون‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 39‏]‏ وما بين ذلك اعتراض كما علمت، فالجملة‏:‏ إمّا مرتبطة بغرض انتصار المسلم على ظالمه من المسلمين تكملة لجملة ‏{‏فمن عفا وأصلح فأجره على الله‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏، وإمّا مرتبطة بغرض انتصار المؤمنين من بغْي المشركين عليهم، وهو الانتصار بالدفاع سواء كان دفاع جماعات وهو الحرب فيكون هذا تمهيداً للإذن بالقتال الذي شُرع من بعد، أم دفاعَ الآحاد أن تمكنوا منه فقد صار المسلمون بمكة يومئذٍ ذوي قوة يستطيعون بها الدفع عن أنفسهم آحاداً كما قيل في عزّ الإسلام بإسلام عمر بن الخطاب‏.‏

واللام في ولمن انتصر‏}‏ موطئة للقسم، و‏(‏مَن‏)‏ شرطية، أو اللام لام ابتداء و‏(‏من‏)‏ موصولة‏.‏ وإضافة ‏{‏ظلمه‏}‏ من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي بعد كَونه مظلوماً‏.‏

ومعنى ‏{‏بعد ظلمه‏}‏ التنبيه على أن هذا الانتصار بعد أن تحقق أنهم ظُلموا‏:‏ فإمّا في غير الحروب فمن يتوقع أن أحداً سيعتدي عليه ليس له أن يبادر أحداً بأذى قبل أن يشرعَ في الاعتداء عليه ويقول‏:‏ ظننت أنه يعتدي عليَّ فبادرتُه بالأذى اتقاء لاعتدائه المتوقع، لأن مثل هذا يثير التهارج والفساد، فنبه الله المسلمين على تجنبه مع عدوِّهم إن لم تكن بينهم حرب‏.‏

وأما حال المسلمين بعضهم مع بعض فليس من غرض الآية، فلو أن أحداً ساوره أحد ببادئ عَمل من البغي فهو مرخّص له أن يدافعه عن إيصال بغيه إليه قبل أن يتمكن منه ولا يمهله حتى يوقع به ما عسى أن لا يتداركه فاعلُه من بعد، وذلك مما يرجع إلى قاعدة أن ما قارب الشيء يُعطَى حكم حصوله، أي مع غلبة ظنه بسبب ظهور بوادره، وهو ما قال فيه الفقهاء‏:‏ «يجوز دفع صائل بما أمكن»‏.‏

ومحل هذه الرخصة هو الحالات التي يتوقع فيها حصول الضرّ حصولاً يتعذر أو يعسر رفعه وتداركه‏.‏ ومعلوم أن محلها هو الحالة التي لم يفت فيها فعل البغي، فأما إن فات فإن حق الجزاء عليه يكون بالرفع للحاكم ولا يتولى المظلوم الانتصاف بنفسه، وليس ذلك مما شملته هذه الآية ولكنه مستقرى من تصاريف الشريعة ومقاصدها ففرضناه هنا لمجرد بيان مقصد الآية لا لبيان معناها‏.‏

والمراد بالسبيل موجب المؤاخذة بالّلائمة بين القبائل واللمزِ بالعُدوان والتبعة في الآخرة على الفساد في الأرض بقتل المسالمين، سُمي بذلك سبيلاً على وجه الاستعارة لأنه أشبه الطريقَ في إيصاله إلى المطلوب، وكثر إطلاق ذلك حتى ساوى الحقيقة‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك ما عليهم من سبيل‏}‏ فاء جواب الشرط فإن جعلتَ لام ‏{‏لمن انتصر‏}‏ لام الابتداء فهو ظاهر، وإن جعلت اللام موطئة للقسم كان اقتران ما بعدها بفاء الجواب ترجيحاً للشرط على القسَم عند اجتماعهما، والأعرفُ أن يرجّح الأول منهما فيعطى جوابَه ويحذف جواب الثاني، وقد يقال‏:‏ إن ذلك في القسَم الصريح دون القسم المدلول باللام الموطئة‏.‏

وجيء باسم الإشارة في صدر جواب الشرط لتمييز الفريق المذكور أتمَّ تمييز، وللتنبيه على أن سبب عدم مؤاخذتهم هو أنهم انتصروا بعد أن ظُلموا ولم يبدأوا الناس بالبغي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏‏}‏

استئناف بياني فإنه لما جرى الكلام السابق كله على الإذن للذين بُغِي عليهم أن ينتصروا ممن بغَوا عليهم ثم عقب بأن أولئك ما عليهم من سبيل كان ذلك مثار سؤاللِ سائِللٍ عن الجانب الذي يقع عليه السبيل المنفي عن هؤلاء‏.‏

والقصر المفاد ب ‏{‏إنما‏}‏ تأكيد لمضمون جملة ‏{‏فأولئك ما عليهم من سبيل‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 41‏]‏ لأنه كان يكفي لإفادة معنى القصر أن يقابل نفيُ السبيل عن الذين انتصروا بعد ظلمهم بإثبات أنّ السبيل على الظالمين، لأن إثبات الشيء لأحد ونفيه عمن سواه يفيد معنى القصر وهو الأصل في إفادة القصر بطريق المساواة أو الإطناب كقول آلسّمَؤْأل أو غيره‏:‏

تَسيل على حدّ الظُّبات نفوسنا *** وليستْ على غير الظبات تسيلُ

وأما طرق القصر المعروفة في علم المعاني فهي من الإيجاز، فلما أوردت أداة القصر هُنَا حصل نفي السبيل عن غيرهم مرةً أخرى بمفاد القصر فتأكد حصوله الأولُ الذي حصل بالنفي، ونظيرُه قوله تعالى‏:‏ ما على المُحسنين من سبيل إلى قوله‏:‏ ‏{‏إنَّما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء‏}‏ في سورة براءة ‏(‏93‏)‏‏.‏

والمراد بالسبيل‏}‏ عين المراد به في قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك ما عليهم من سبيل‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 41‏]‏ بقرينة أنه أعيد معرَّفا باللام بعد أن ذُكر منكَّراً فإن إعادة اللفظ النكرة معرّفاً بلام التعريف يفيد أن المراد به ما ذكر أولاً‏.‏ وهذا السبيل الجزاء والتبعة في الدنيا والآخرة‏.‏

وشمل عموم الذين يظلمون‏}‏، وعمومُ ‏{‏الناس‏}‏ كلَّ ظالم، وبمقدار ظلمه يكون جزاؤه‏.‏ ويدخل ابتداءً فيه الظالمون المتحدَّث عنهم وهم مشركو أهل مكة، والناسُ المتحدث عنهم وهم المسلمون يومئذٍ‏.‏

والبغي في الأرض‏:‏ الاعتداء على ما وضعه الله في الأرض من الحق الشامل لمنافع الأرض التي خلقت للناس، مثل تحجير الزرع والأنعاممِ المحكِي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا هذه أنعام وحَرْث حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إلا مَن نَشاء بزعمهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 138‏]‏، ومثل تسييب السائبة وتبحير البَحيرة، والشامل لمخالفة ما سنّه الله في فطرة البشر من الأحوال القويمة مثل العدللِ وحسن المعاشرة، فالبغْيُ عليها بمثل الكبرياء والصلف وتحقير الناسسِ المؤمنين وطردِهم عن مجامع القوْم بغيٌ في الأرض بغير الحق‏.‏

والأرض‏}‏‏:‏ أرض مكة، أو جميع الكرة الأرضية وهو الأليق بعموم الآية، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا تولى سعَى في الأرض ليفسد فيها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 85‏]‏، فكل فساد وظلم يقع في جزء من الأرض فهو بغي مظروف في الأرض‏.‏

وبغير الحق‏}‏ متعلق ب ‏{‏يبغون‏}‏ وهو لكشف حالة البغي لإفادة مذمته إذ لا يكون البغي إلاّ بغيرِ الحق فإن مسمى البغي هو الاعتداء على الحق، وأما الاعتداء على المبطل لأجل باطله فلا يسمى بغياً ويُسمّى اعتداء قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏، ويقال‏:‏ استعدَى فلان الحاكمَ على خصمه، أي طلب منه الحكم عليه‏.‏

وجملة أولئك لهم عذاب أليم‏}‏ بيان جملة ‏{‏إنما السبيل على الذين يظلمون‏}‏ إن أريد ب ‏{‏السبيل‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما عليهم من سبيل‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 41‏]‏ سبيل العقاب في الآخرة، أو بدل اشتمال منها إن أريد بالسبيل‏}‏ هنالك ما يشمل الملام في الدنيا، أي السبيل الذي عليهم هو أن لهم عذاباً أليماً جزاء ظلمهم وبغيهم‏.‏

وحكم هذه الآية يشمل ظُلم المشركين للمسلمين ويشمل ظلم المسلمين بعضهم بعضاً ليتناسب مضمونها مع جميع ما سبق‏.‏

وجيء باسم الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر قبله مع تمييزهم أكمل تمييز بهذا الوعيد‏.‏